شرق آسيا هو مكان تواجد ثلاثة بلدان الصين وكوريا واليابان تملك إرثا ثقافيا طويلا ومترابطا. حتى القرن التاسع عشر، حين أدركت هذه الدول وجود العالم الأوروبي، كان هذا العالم جزءا نائيا، ليس مشوقا ولا مهما جدا، من الكرة الأرضية. في القرن التاسع عشر، دخل هذا العالم النائي، المنظم على شكل اقتصادات رأسمالية، عنوة وفجأة إلى شرق آسيا، ودمج هذه المنطقة بالقوة في الشبكات الاقتصادية والسياسية لهذا العالم الاقتصادي الرأسمالي. اعتُبر شرق آسيا، من وجهة نظر الطبقة والبلدان المهيمنة في هذا النظام العالمي، بالكاد قطاعا إضافيا يجب بناؤه كمنطقة تنتج منتجات هامشية في التقسيم المحوري للعمل في الاقتصاد العالمي.
ليست هناك حاجة الى القول إن سكان شرق آسيا لم يكونوا مسرورين بهذا الدور التابع في هذا النظام العالمي الذي أدمجوا فيه. بدأت اليابان، في وقت مبكر، محاولة عكس هذا الوضع مع <<تنصيب ميجي>>(1). سعت إلى تعلم المهارات وخلق المؤسسات الداخلية الضرورية للسماح لها بأن تغير دورها في التقسيم العالمي للعمل الذي وجدت نفسها فيه. بدأت الصين جهودها المضادة في وقت لاحق مع الثورة الأولى في العام 1911 ومن ثم مع <<المسيرة الطويلة>> للحزب الشيوعي الصيني. أما محاولات كوريا المضادة فقد تأخرت بفعل الاستعمار الياباني ولم تبدأ سوى بعد العام 1945.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت البلدان الثلاثة لا تزال تؤدي دورا ثانويا في النظام العالمي الحديث. أصبحت الولايات المتحدة القوة المهيمنة. كانت لديها أفضليات اقتصادية غامرة. كانت القوة العسكرية الأقوى في العالم. كان خصمها العسكري والأيديولوجي الجدي هو الاتحاد السوفياتي فقط. ومن أجل الحفاظ على السلام، وهو أمر مفيد لكلتا القوتين، أبرمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي اتفاقا ضمنيا، سمي بصورة مجازية اتفاق يالطا، اتفقا فيه على تقسيم العالم إلى محورين، وعلى إبقاء حدود هاتين المنطقتين سليمة. اتفقا أيضا على المضي بطريقين اقتصاديين مختلفين (في الواقع، انسحب الاتحاد السوفياتي بصورة تلقائية من بورصات الاقتصاد العالمي). كما اتفقا على الانخراط في صراع خطابي، لكن غير عنيف، سمي الحرب الباردة. كانت وظيفة الخطابة الحفاظ على الوضع الجيوبوليتيكي، أكثر منها تغييره، وبذلك يبقي كل طرف على حلفائه والدول الدائرة في فلكه.
اختبر اتفاق يالطا أربع مرات حصار برلين والحرب الكورية واشتباك كيموي ماتسو وأزمة كوبا انتهت كل منها بهدنة أعادت الوضع إلى نقطة البداية. بدا اتفاق يالطا وكأنه يعمل جيدا. تطوران أساسيان قوضا يالطا وبالتالي قوضا الهيمنة الأميركية. الأول كان الأزمة الاقتصادية غير العادية في أوروبا واليابان. فمع حلول منتصف ستينيات القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة قد خسرت تفوقها الاقتصادي على المؤسسات الإنتاجية لهاتين المنطقتين. لم تكونا قادرتين فقط على منافسة الولايات المتحدة في أسواقهما الداخلية، بل حتى في السوق الأميركية نفسها كما في بقية أنحاء العالم. لم تعد أوروبا الغربية واليابان تعتمدان اقتصاديا على رضا حكومة الولايات المتحدة. أصبحتا خصمين اقتصاديين أساسيين، وبالتالي قادرتين على أن تطمحا إلى الاستقلال السياسي.
التغير الثاني كان عدم رغبة بعض البلدان الرئيسية في ما أصبح يدعى العالم الثالث، أو الجنوب، في قبول ترتيبات يالطا للوضع القائم. الأولى كانت الصين حيث زحف الشيوعيون الصينيون، في تحد لستالين، إلى شنغهاي وفرضوا سيطرتهم. لكن الصين لم تكن المتمرد الوحيد. تحدت كوبا ومصر والجزائر، وقبلها جميعا فيتنام، النظام العالمي الذي تهيمن فيه الولايات المتحدة. وبقيامها بذلك، لم تكن تحظى فعلا بدعم الاتحاد السوفياتي الذي غالبا ما حصر دوره بالخطابة وبقليل من الأموال. لكن برغم ذلك، كانت فيتنام، وهي بلد صغير، قادرة، ليس فقط على مقاومة الولايات المتحدة، وإنما على هزيمتها فعلا في الحرب، ما شكل عملا بطوليا لا يصدق غير النظام العالمي.
عند هذه النقطة، في أوائل سبعينيات القرن الماضي، بدأنا نرى بداية الانحدار البطيء، ولكن المتواصل، في قوة الولايات المتحدة، أي نهاية الهيمنة الحقيقية. حكاية الأعوام الثلاثين اللاحقة، 20001970، كانت قصة محاولة الولايات المتحدة إبطاء خسارتها لقوتها في النظام العالمي. بالنسبة لشرق آسيا، كانت مرحلة نمو اقتصادي ضخم، أولا في اليابان، ثم في ما سمي التنانين الأربعة (كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة)، ومن ثم في الأرض الأساسية، الصين.
أعطى مجيء جورج بوش إلى البيت الأبيض، وهجمات 11 أيلول، المحافظين الجدد في إدارة بوش الشرعية لتنفيذ برنامج التدخل العسكري الأحادي الذي بلغ ذروته في الغزو الأميركي للعراق في العام 2003. تحول هذا الغزو ليصبح فشلا كبيرا للولايات المتحدة، دبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا وحتى عسكريا. كانت نية المحافظين الجدد تقوية موقع الولايات المتحدة في النظام العالمي واستعادة هيمنتها. النتيجة كانت العكس تماما. سرعت مسيرة أوروبا نحو الاستقلال السياسي. زادت في سرعة الانتشار النووي، خاصة في كوريا الشمالية وإيران. وقد أساءت بعمق الى المصداقية السياسية والأخلاقية للولايات المتحدة.
جيوبوليتيكيا، ما قد نتوقعه خلال السنوات العشرين المقبلة هو بروز أوروبا وشرق آسيا على الساحة العالمية وهما تتصرفان باستقلالية عن الولايات المتحدة. لكن أي شكل سيأخذه ذلك في شرق آسيا؟ يعد التعاون والتنسيق الاقتصادي بين الدول الثلاث أقل المشاكل، فهي تشكل أصلا مواقع قوية لتراكم رأس المال ويمكن توقع أن تصبح أقوى في العقود المقبلة. بالعمل معا، يمكن أن تصبح على الأرجح المحرك الأساسي للاقتصاد العالمي. لديها الكثير لتربحه بالاندماج الاقتصادي، والقليل جدا لتخسره. ستتحرك بتصميم على الأرجح في هذا الاتجاه. المصاعب الأساسية سياسية. لدى الدول الثلاث تاريخ من الضيم مع بعضها البعض لا يزال مهما جدا في علاقاتها المتواصلة. لا تزال كوريا تذكر استعمار اليابان لها. ولا تزال الصين تذكر احتلال اليابان لمعظم أراضيها في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. ولا تزال القومية اليابانية معبأة بشعور أنه كان ينظر إلى اليابانيين، عبر آلاف السنين، ثقافيا، بازدراء من قبل الصين وكوريا. المشكلة السياسية الكبيرة الثانية هي أن كلا من الصين وكوريا لا تزال بلدا مقسما، ولا يزال توحيدهما يشكل هما أوليا وملحا. أما المشكلة السياسية الكبيرة الثالثة فهي قضية شكل وحجم القوة العسكرية التي ستأخذها على عاتقها كل من هذه الدول، وخاصة في ما يتعلق بتطوير الأسلحة النووية.
في حال أرادت شرق آسيا أداء الدور الاقتصادي الممكن لها، فعليها حل هذه المشاكل السياسية. لن تستطيع الصين ولا اليابان تحقيق إمكانياتها الاقتصادية من دون الأخرى. ويمكن أن أضيف أنه حتى الصين واليابان معا لن تستطيعا القيام بذلك من دون كوريا. هذا يعني أن المفاوضات السياسية الكبرى ضمن شرق آسيا يجب أن تحصل، كما حصلت في أوروبا الغربية على مدى نصف القرن الماضي. وهنا بالطبع حيث يكمن المجهول.
يجب أن تكون هذه الدول الثلاث قادرة على وضع الضيم التاريخي خلفها (ليست فكرة مستحيلة حقا)، يجب على الصين وكوريا أن تجدا صيغة تسمح بالتوحيد السياسي لبلديهما، ويجب على الدول الثلاث أن تتخذ قرارا واضحا حول تعزيز قدراتها العسكرية وربما تعاونها العسكري، عندها ستكون شرق آسيا قوة مرعبة في السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين.
عندها سيكون أمامها ثلاثة قرارات سياسية أساسية لتتخذها: كيف ستكون علاقتها بالولايات المتحدة؛ كيف ستكون علاقتها بمحيطها القريب (خاصة جنوبي شرقي آسيا) ومحيطها الخارجي (جنوبي وجنوبي غربي آسيا)؛ ما هو الموقف الذي ستتخذه في صراع شمال جنوب في العقود المقبلة.
تجب الإشارة إلى أن هذه هي القضايا نفسها تماما التي تواجهها أوروبا في العقود المقبلة (برغم أن محيطها مختلف).
خلال السنوات ال50 الأخيرة، حددت الولايات المتحدة (ومنافسها الزائف التآمري، الاتحاد السوفياتي)، وضبطت، الصراعات والمناقشات في النظام العالمي. في السنوات ال50 المقبلة، سنجد جميعنا أنفسنا في عالم متعدد الأقطاب حقا. سنجد أنفسنا أيضا في مرحلة انتقالية من نظام عالمي، هو اقتصادي عالمي رأسمالي، إلى نوع آخر من النظام العالمي لا يزال غير محدد وغير مفصول فيه. ستكون شرق أسيا جزءا أساسيا من هذا المسار، لكنها لن تكون لوحدها.
ترجمة: إيلي شلهوب
(1) في العام 1868، خسر توكوغايا شوغن (الجنرال العظيم)، الذي حكم اليابان خلال المرحلة الإقطاعية، السلطة وأعيد العمل بالنظام الإمبراطوري فنصب إمبراطور أسمى نفسه ميجي (الحكم المتنور) وعرف هذا الحدث ب<<تنصيب ميجي>>.
() استاذ الدراسات المتقدمة في جامعة يال تنشر <<السفير>> النص بالاتفاق مع الكات
الأربعاء فبراير 21, 2007 3:32 pm
