شخصية إخبارية مرموقة من شخصيات القرن الرابع الهجري ، كان لها رؤية مميزة ، لا زلنا نهتدي بضوئها في رسم طريق ثقافي لأدب خالد على مر العصور.
روايات كثيرة في آلاف الصفحات ، نثرها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب ، كان سبيله الغوص في
الذاكرة ، وقد ساق لنا فيه أفكاره فيما يشبه الواحات المنمنمة في تفصيلات الذوق العربي وتفريعاته.
إنه كتاب الأغاني " وهو ما هو " كما يقول عنه ابن خلدون في مقدمته : " جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم ، وأنسابهم ، ودولهم ، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد ، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب واوفاه. ولعمري إنه ديوان العرب".
إنها شهادة عصر وفكر من عالم لا ممايرة في شهادته.
كان أبو الفرج الأصفهاني راوية عصره ، يتمتع بأسلوب خاص في إيراد الروايات وتنميقها ، ومسلكه في رواياته مسلك الرواة الحاذقين ، وليس تدقيق المؤرخين الذين يمحصون الأخبار ليقفوا على الحقيقة ، ويذكرون ما يعتقد أنه الحق . لذلك جاء كتاب " الأغاني " جامعاً لكل ما قيل من أخبار وقصص ، يوردها الأصفهاني كما وصلته من مصادرها ، حريصاً ألا يفوته شيء مما يعرفه الناس ، فيرويه على علاته وإن كان من المصنوعات والأكاذيب . بل وإن كان المعنى فاسداً ، أو الخبر مختلطاً ، لذلك نجده يقول معلقاً:
" وأحسب أن هذا الخبر مصنوع ، ولكن هكذا أخبرنا به ابن أبي زهر ". أو أن يقول : "وهذا الخبر عندي مصنوع ، وشعره مضعف يدل على ذلك ، ولكني ذكرته فيما وقع إلي".
لقد وقع لأبي الفرج أخبار وقصص ومرويات كثيرة خلال حياة مديدة بلغت الثمانين ، عاشها مؤلف الأغاني بين حواضر ثلاث هي : أصفهان والكوفة ثم في بغداد.
كان مولده سنة أربع وثمانين ومائتين ، وهو ما اتفق عليه ، ونشأ في أحضان أسرة غير محدودة المعالم . ولكن ما لم يتفق عليه هو تحديد سنة وفاته. فابن النديم يجعلها سنة نيف وستين وثلاثمائة، بينما جعلها آخرون سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ، أو ست وخمسين وثلاثمائة ، ولا ندري سبب الخلاف في تحديد زمن الرحيل.
أقام الأصفهاني في مدينة الكوفة ، ومن أجوائها الثقافية نهل علومه ، واستقى ثقافته الكوفية عن الشيوخ الكوفيين ، ثم رحل إلى بغداد فكان همه الاستزاده من العلم ، وتقييد ما يمليه عليه أساتذته، وتقييد كل ما يطرق سمعه ، وما يقع تحت بصره من مكتوب ، وإن كان هذا المكتوب غير مسمى الصانع على حد تعبيره . ومن هنا ، ومن الحرص على التقييد والتوثيق كان أبو الفرج من الرواة الممتازين القادرين على صياغة الخبر بحنكة الكاتب والإعلامي المبدع.
وقد قال عنه ابن الخطيب : " وكان عالماً بأيام الناس والأنساب والسيرة ، وكان شاعراً محسناً ، والغالب عليه رواية الأخبار والآداب ".
كما قال عنه التنوخي: " ومن المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصفهاني . كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والأحاديث المسندة ، والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله ، ويحفظ دون ذلك من علوم أخرى ، منها : اللغة والنحو والسير والمغازي ، ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً، مثل علم الجوارح والبيطرة ، ونتف من الطب والنجوم والأشربة " .
هذا بالإضافة إلى إلمامه بالغناء والموسيقى ، فقد دون أبو الفرج في الأغاني الأصوات التي اختارها المغنون للخلفاء ولاسيما لهارون الرشيد . فجمع من القصائد العربية ما أمكنه جمعه، ونسب كل ما ذكره منها إلى قائل شعره ، وصانع لحنه ، ثم توسع في ترجمة هذا الشاعر أو المغني ، وبحث في الأحوال التي قيلت فيها الأبيات ، من حرب أو مجلس لهو في الجاهلية والإسلام ، إلى جانب القصص والأخبار الفنية للغناء العربي ، وأخبار أخرى استقاها من عالم الشعر والشعراء . وقد أهمل الشعراء الذين لم يجد لهم من الأشعار ما غنيّ لينسجم هذا مع موضوع كتابه .
ويعلل ابن خلدون هذا الاهتمام بما يشير إلى أن الغناء إنما قام من أجل تعلم الأدب والعناية بالشعر . وفي هذا يقول :
" وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفنّ لما هو تابع للشعر ، إذ الغناء إنما هو تلحينه ، وكان الكتّاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه . فلم يكن انتحاله قادحاً في العدالة والمروءة " .
في الواقع لقد كان كتاب الأغاني الذي اعتبره ابن خلدون " ديوان العرب " موسوعة جامعة شاملة أغنى المكتبة العربية بعد أن فقدت كثيراً من الكتب ، وفيضاً من المرويات التي اعتمد عليها أبو الفرج ودونها في كتابه .
ويقع " الأغاني " في أربع وعشرين جزءاً ، حملة المؤلف على جناح الفكر ، وقدح الذاكرة ليقدمه إلى سيف الدولة الحمداني لكن الأمير لم يقدر جهد الأصبهاني ، فنقده عليه ألف دينار فقط مما اعتبر أجحاف بحقه ، إذ ينقل ياقوت على لسان المهلبيّ أنه قال : " سألت أبا الفرج: في كم جمعت هذا الكتاب ؟ فقال في خمسين سنة " .
هذا ويذكر بعض المؤرخين أن الأصفهاني ألف كتابه للصاحب بن عباد وزير الدولة البويهية .
إن كتاب " الأغاني " هذا السفر الضخم الذي استهلك من حياة الرجل خمسين عاماً يؤدي وظيفتين : هما وظيفة الإقناع والمؤانسة والترفيه ، إلى جانب وظيفة التثقيف والتوثيق الاجتماعي لعصره وما قبله . فالمؤلف يتمتع بقدره فائقة وريشة مصورة وذاكرة شفافة وعبارة دقيقة في رواية الأخبار التي تجمع العلوم والغناء والشعر والقصص وغيرها . وقد فرضت عليه ذاكرته وسعة إطلاعه اختياراً خاصاً ومعياراً سليماً . كما يقول في المقدمة : " ... ... ثم بسائر الغناء الذي عرف له قصة تستفاد ، وحديثاً يستحسن . إذ لكل الأغاني خبر ، ولا في كل ماله خبر فائدة، ولا لكل ما فيه بعض الفائدة رونق يروق الناظر ويلهي السامع " .
وبذلك جاءت الأخبار التي رواها أبو الفرج متنوعة القطاف جمّة الفائدة ، ثرية الأمتاع . منها النسب ومنها أخبار الاضطهادات ، أو القتل السياسي ، ومنها أخبار الشعراء ومذاهبهم ورأي النقاد منهم ، ومنها أخبار مجالس السمو واللهو التي وفرها له خلطاؤه .
إنه كتاب استوعب ووعى ، كتبه الأصفهاني بدقة عميقة ، وعبارة سهلة أنيقة فحق لابن خلدون أن يعتبره " ديوان العرب ، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال ، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه . وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ، ويقف عندها ، وأنّى له بها " .