تحلقت أسرتنا حول جهاز التلفزيون بلهفة بالغة، في انتظار الحلقة الأخيرة من المسلسل العربي الذي كنا نتابعه..
اليوم، واليوم فقط سنعرف إن كان "سامي" سينجح في كشف الأنصاري باشا وفضح ألاعيبه، وإثبات تهمة القتل عليه، والانتقام لأخته "أمنية"المسكينة المقتولة ظلماً، وسنعرف اليوم فقط إن كان زوج "أمنية" -الشابة الجميلة البسيطة القتيلة- سيتحرر من عقدة الذنب، ويعود لحالته الطبيعية عندما تكتشف جريمة أبيه في حق زوجته الحبيبة، وسنعرف اليوم هل سيصمد حب هناء بنت الأنصاري باشا لسامي، حتى بعد أن يكشف أباها، ويسوقه إلى حبل المشنقة؟ أم أن عاطفة البنوة ستغلب عاطفة الحب والعشق؟
لقدأضعت من وقتي ثلاثين ليلة أو يزيد في متابعة هذاالمسلسل
ثلاثين ساعة من عمري... وعمر أولادي
ونتيجة لدقة جدولة مواعيد البثللبرامج في قنواتنا الفضائية العربية، وشدة احترامها لأوقات المشاهدين ومشغولياتهم، فقد كان موعد عرض حلقات المسلسل لا يتأرجح إلا في حدود ساعتين إلى ثلاث ساعات فقط حول موعده اليومي
المنتظر، مما جعل معدل الساعات المصروفة لمتابعة هذا المسلسل العظيم يبلغ حوالي خمسين ساعة...
فقط لا غير..
لا أبالغ والله...
خمسون ساعة بالتمام والكمال...!
لكن تفاعلنا الوجداني والشعوري مع أحداث المسلسلالمتصاعدة باتجاه العقدة... أبقانا متلهفين على معرفة النهاية...
فكم
ذرفنا من الدموع تعاطفاً مع البطلات أو الأبطال...
وكم
تحملنا من الإطالة والحوارات الجانبية، والموسيقا التصويرية المصاحبة لتأملات هذا البطل،أو تلك البطلة..
وكم
راقبنا على مضض نوم هذا، وسرحان تلك، وخطوات هذا، وتفكرات تلك...
وكم
تساءلنا عقب عدد غير قليل من حلقات المسلسل عن الأحداث الجديدة التي حصلت في ذلك اليوم، واكتشفنا ألا
شيء جديد يذكر قد حدث، إلا بعض الحوارات والإطالات الهادفة لزيادة عدد الحلقات، لمضاعفة الربح التجاري للمسلسل..
لكننا تغاضينا عن هذا الاستهتار الأخير بعقولنا وأوقاتنا،ملتمسين العذر للمنتج المسكين الذي من حقه أن يربح، حتى لوكان ربحه نتيجة متاجرته بأغلى ما نملكه من رؤوس أموال في هذه الحياة، نحن كمشاهدين، ألا وهو أوقاتنا...
بعد هذا كله...حان موعد الحلقة الأخيرة... وقد ظنناه لا يحين...
وها
نحن الآن في منتهى الاستعداد والتشوق لمعرفة حل العقدة، ونهاية الأحداث، وكشف النقاب عن كل الأسرار..
يااااااااااااااااااه
وإذا بنا...وبكل أسف... نفاجأ بحل ارتجالي للعقدة، لا يتلاءم مع رسم الشخصيات، ولا مع أبسط قواعد الأخلاقيات، ولا أقل درجات المنطق، ولا حتى معتفاعل الأحداث...
نهاية
لا تستسيغها العقول، ولا تتقبلها الضمائر، ولا تهضمها المشاعر، ولا حتى تعكس أي نوع من الجمال، لا
أدبياً ولا فنياً ولا حِرفياً....
نهاية حاولوا أن يقنعونا أنها رومانسية، وهي أبعد ما تكون عن
الحد الأدنى للرومانسية أو الجمال أو الأخلاق...
لا أقصد حوارات خارجة، ولا مناظر فاضحة.... فهذه أشياء تعودنا عليها، وشربناها بالملعقة، حتى تحولت في
حسِّنا إلى أمور طبيعية، بل وبديهية في أعمالنا الفنية العربية...لكنني
أقصد متنافية مع أخلاق الصدق والحق والخير والعدل والوفاء... هذه القيم التي نأمل أن تجسدها فنوننا، حتى لو بدأت تضمحل من حياتنا...
تصوروا...
الزوج المسكين الذي تعاطفنا معه، إذا به هو القاتل الأثيم، لا..
لم يكن أثيماً بحسب ما صوره المسلسل، فهو يحب زوجته،
لكنه ضربها حتى الموت دون قصد، مسكييييييييييين.... كم تعذب...
كم بكاها... كم كان يحبها.... وما كانت جريمة الأب إلا أنه حاول التستر على جريمة ابنه، لكن الأب مع ذلك يلقى جزاءه بالسجن،
لأنه شخص غير مرغوب به من
بداية المسلسل، فلا بد أن نتخلص
منه عن طريق اتهامات اقتصادية وأعمال تجارية مشبوهة، والزوج
البطل الرومانسي، يظفر بالسماح والعطف والحنان من أهل زوجته القتيلة، الذين
برد قلبهم، وتبخر غضبهم فجأة.. عندما عرفوا أن ابنتهم لم تقتل على يد والد زوجها الذي كان يكرهها لأنها من بيئة فقيرة لا تناسبه، بل قُتلت بيد زوجها المحب العطوف، فاطمأنت قلوبهم، وسامحوه، وأكدوا له حبهم وتعاطفهم معه، وتوجت جرائم هذا الزوج الرومانسية بأن عروسه الجميلة الطيبة ، ابنة الحسب والنسب، أحبته من كل قلبها، (عندما اكتشفت رومانسيته وأسلوب تعبيره عن الحب لزوجته الأولى) وقررت أن تنتظره إلى ما بعد خروجه من السجن... مؤكدة له حبها وإخلاصها... فأكد لها أنه الآن فقط أحس للحياة معنى، وصار عنده ما يعيش من أجله (بعد أن قتل زوجته وجنينها الذين كان يعيش من أجلهما) ... يا لها من نهاية سعيدة.. رومانسية.... حالمة...
لقد
جلسنا نضرب كفا بكف، ونتساءل:
ألهذا الحد صار كتابنا ومخرجونا يستهزؤون بعقولنا؟ ولا يتورعون عن تقديم أي مادة لنا مهما تدنى مستواها، سواء
من حيث الديكور أو الملابس أو الماكياج أو الإخراج أو السيناريو والحوار؟
ألهذا الحد لم يعد هناك أي احترام لهذا المشاهد المسكين الذي يبحث عن مادة فنية تسهم في تثقيفه وترفيهه، وتعزيز مبادئه وأخلاقياته؟
ألهذا
الحد بلغ الاستهتار بذكائنا وعقولنا وأوقاتنا حتى يضيعوا منها الساعات الطوال على هذه الحبكات التافهة، والأحداث
المفتعلة، والنهايات المرتجلة؟
حاولت أن أفهم أطفالي أن ما شاهدوه وما تفاعلوا معه لا يمت للواقع بصلة، وأن ما قدمه لهم المسلسل على أنه درس أخلاقي راق، ما هو إلا استهزاء بالقيم الإنسانية، وتسخيف للعواطف البشرية..
كنت في غاية الانفعال وأنا أحاول أن أنتزع من عقول أطفالي هذا العفن الذي غرسه في عقولهم هذا المسلسل، وأن
أنفض عنهم آثار التشويش والهدم الذي أوجده في أفكارهم الغضة...أهذه هي رسالة الفن؟
أجيبوني ....
ترى
أما من قانون يضمن حق المشاهد في فن راقٍ نظيف هادف؟
ترى؟
...أليس من حقنا أن نطالب المخرج أو المنتج بتعويض عن وقتنا
المهدر، ورأسمالنا المسروق؟...
ترى؟
أليس من حقنا أن نقاضي السيناريست على هذه الأفكار التي جعلها تتسلل بهدوء ونعومة إلى عقول وقلوب أبنائنا؟
ترى؟..
أليس من حقنا أن نقاضي السيناريست على هذا القلب لمفاهيم الحب والخير والجمال، وتلوين الجريمة بألوان الفضيلة، وإلباس العنف والأنانية لباس الحب والتضحية؟
ترى؟
.... أليس من حقنا أن نقاضي السيناريست على هذه الجريمة في حقنا
وحق أسرنا؟
الخميس مايو 31, 2007 11:37 pm
